مجتمع

البابا فرنسيس: رجل سأفتقده

كان البابا فرنسيس قلقًا بشأن أزمات العصر الحديث، يسعى لمواجهة نزعة معاداة الإنسان المتفاقمة، التي تُمارس باسم الوطن، والعائلة، وللأسف أيضًا باسم الله.

future البابا فرنسيس في ساحة القديس بطرس بعد انتخابه

قد ينتهي الزمن الجامح إلى محو ذكرى البابا فرنسيس أسرع مما نتوقع، أو قد تكون هي الخطى الحثيثة للأمم الغارقة في الحروب والأكاذيب التي يروجها أصحاب السلطة الجدد، هي ما سيفعل ذلك. وربما، في الواقع، يكون الأثر التراكمي لكل هذا هو ما سيعيد دفن ذلك الإرث من الآمال الذي استطاع الأرجنتيني أن ينتشله من القاع. ولكن لمدة ثلاثة أيام، ثلاثة أيام مقدسة في عام عادي، انسحبت الأحداث الكبرى وسمومها من المشهد. كانت تلك الأيام الثلاثة هي التي بقي فيها نعش البابا فرنسيس مفتوحًا تحت قبة كاتدرائية القديس بطرس.

آه، ليس أنهم لم يحاولوا تشويش اللحظة، ففي تلك الأيام سقطت القنابل على كييف، وألقى الغزاة باللوم على ضحاياهم، واقترب «يوم تجاوز قدرة الأرض» Earth Overshoot Day (اليوم الذي يتجاوز فيه استهلاك البشر قدرة الكوكب على تجديد مواردها للعام القادم) هذه السنة بالنسبة لعدد من الدول، وكان هناك من لا يزال يقصف ما تبقى من غزة، من سيارات إسعاف وجرافات.

ثلاثة أيام تراجعت خلالها مآسي هؤلاء الطغاة الظرفاء إلى الصفحات الداخلية للصحف، بينما احتلت الواجهةَ صورُ الآلاف من الناس المصطفين لدخول الكاتدرائية، وبدأ الناس يشدّون الرحال لتكريمه. فعلت ذلك أنا أيضًا، لأنني سأفتقد صوته. كانوا يتهمونه بممارسة السياسة بينما كان يتحدث عن الضيافة والتضامن والتخلي عن إغراء الهيمنة، وكان الناس يحبونه أكثر. كان المسؤولون الرسميون يجرّمون استقبال الغريب ويمجّدون الحرب، وكان الناس يزدادون وفاءً له.

بعيدًا عما سيكتبه المعلقون الأكثر خبرة، كان البابا فرنسيس ببساطة رجلًا قلقًا بشأن أزمات العصر الحديث، يسعى لمواجهة نزعة معاداة الإنسان المتفاقمة، التي تُمارس باسم الوطن، والعائلة، وللأسف أيضًا باسم الله — الله الذي يحمل جواز السفر والإيديولوجيا الصحيحة. وصل الأمر برئيس الأرجنتين خافيير ميلي إلى وصف بيرجوليو (الاسم الدنيوي للبابا فرنسيس) بأنه «رجل الشيطان على الأرض». ومع مرور كل يوم، يحيط بنا المزيد من رجال الدولة الذين يبررون الكراهية واضطهاد المستضعفين. ولهذا السبب، كان البابا فرنسيس محبوبًا، وأراد الناس أن يعبروا عن حبهم له بعد وفاته.

وفي جنازته، سيحضر حتى أولئك الذين لعنوه واتهموه بالخيانة، أولئك الفِرِّيسيون الجدد (طائفة يهودية متشددة عادت السيد المسيح) الذين يمثلون شريعة لا تساوي بين الجميع. سيحضرون، ولكن سيظهرون عراة تمامًا، كما لو كانوا دمى من ورق معروضة للمتفرجين.

سعى فرنسيس إلى سيادة القانون حينما مارس الآخرون قانون الأقوى. في رسالته العامة «كُن مُسبّحًا» (Laudato si')، وبكلمات رجل كنيسة، شبّه الخليقة بكوكب غايا كما وصفه جيمس لوفلوك (عالم بيئة بريطاني افترض أن الأرض هي نظام بيئي واعٍ وذاتي التنظيم)، ككائن حي معقد تتحدد فيه شروط الحياة على الأرض عبر شبكة من العلاقات المتبادلة التي لا يستطيع البشر الانفصال عنها. وانتقد النزعة الإنسانوية الحديثة التي سيّدت العقل الأداتي على الواقع، معارضًا إياها بمفهوم البيئة المتكاملة، مما جلب له سخرية الكثير من مدعي الحداثة.

وفي رسالته «كلنا إخوة» (Fratelli tutti)، كشف زيف أيديولوجيا «الحدود» باسم الأخوة الإنسانية الشاملة، ودعا إلى تجاوز الانتماءات النيوكولونيالية والتخلي عن لغة «العدوانية الوقحة»، مؤكدًا أن الهجرة ستكون عنصرًا تأسيسيًا لمستقبل العالم. كانت هذه الرسالة نداءً دائمًا للتفكير وبناء عالم منفتح، نداءً جعل منه خصمًا مكروهًا لدى كثير من الشعبويين.

وفي رسالته «لقد أحبنا» (Dilexit nos)، أعاد القلب إلى مركز الاهتمام، في مجتمع سائل أهمل الجوهر الحميم للإنسان، ودعانا إلى الارتواء من محبة المسيح – تلك المحبة التي كانت وما تزال تفضح الكراهية على مر العصور – لإعادة ترميم الروابط الإنسانية والاجتماعية. كانت هذه آخر رسالة عامة له قبل أن يستهلكه المرض، وبقوة هذا الحب الترميمي، كان يتصل كثيرًا بأبرشية غزة أثناء الحرب ليطمئن على حياة من بقي تحت القصف.

كما أعاد جمع ما كانت أصوات التحريض تطالب بتفريقه، مع الكيانات «غير القابلة للمصالحة مع الحداثة» كما كانوا يسمونها، لاسيما المسلمين، حتى إنه في عام 2019، وقّع وثيقة تاريخية مع الإمام الأكبر للجامع الأزهر، أحمد الطيب، بعد عقود من الحروب الدينية والاعتداءات الدموية في الشرق والغرب. وثيقة جاء فيها ما لم تنص عليه حتى أرقى الدساتير الليبرالية: «من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا».

أعتقد أن كل شخص اصطفّ لتوديع البابا الأخير كان يحمل في قلبه شكرًا خاصًا له؛ أما أنا، فأنا ممتن له لأنه أعاد للإنسانية وللخليقة كرامتهما، ولأنه أعاد روح الإنجيل إلى شؤون العالم. إنه لمن المخيف أن نجهل من سيتولى دفة الكنيسة في وقت تمجّد فيه الأمم الصراعَ وثقافةَ السيطرة، ومن المؤسف أن نضطر إلى التعويل على بابا كنيسة لموازنة أنانية الساسة، ولكن هذا ما يشعر به كثيرون.

ومع ذلك، كانت الطوابير التي شهدتُها يوم الخميس 24 أبريل أمام كنيسة القديس بطرس أمرًا استثنائيًا، خاصة لأن البشرية المحتشدة كانت من كل خلفية وشكل وربما حتى من كل توجه. بالتأكيد سنعترف لاحقًا بما أخفق فيه هذا البابا المتمرد على الكوريا (الكوريا هي الجهاز البيروقراطي للكنيسة الرومانية)، وما لم يستطع تغييره بما يكفي بصفته مصلحًا. ولكن التغيير الذي أحدثه قد يكون أعمق، وربما غير مكتوب — وهذا ما أجرؤ على الأمل فيه — وأظن أنني لمحتُ دليله قبل أيام.

في عيد الفصح، كنت في مانتوفا، شمال إيطاليا، وذهبت لحضور قداس الصباح في الكاتدرائية، متوقعًا شيئًا مملًا أو تقليديًا. لكن، لدهشتي، غيّر الأسقف تمامًا ترتيب الحضور، فجعل الكراسي تشكّل مستطيلًا حول الصحن الأوسط، وجلس هو نفسه كواحد من الجماعة، بينما أقيم المذبح في نفس مستوى الحضور، مما ألغى الدور التقليدي للمذبح البعيد والضخم في حنية الكنيسة. تحدث الأسقف عن الربط بين الابتكار والتقاليد في رسالة الكنيسة، كأنهما شاب نشيط وشيخ حكيم يسيران معًا. لم أشعر منذ سنوات بمثل هذا التشجيع على ألا أخجل من إيماني.

في النعش، كانت بشرة البابا فرنسيس تميل إلى الخضرة الحزينة للموت، لكن وجهه كان هادئًا، بل يكاد يكون مشعًا. وأظن أنني لمحت ابتسامة خفيفة عابرة. لن أنسى هذا المشهد، ولن أنسى أن الخوف من الموت يجب أن يكون نصيب الآخرين. بعض هؤلاء سيحضرون الجنازة، ولكنهم لن ينالوا شرف العودة بصورة وجه بابا الشعب. مؤسف أمرهم؛ فلن يعودوا إلا بما حملوه إلى روما: الجبن والاستبداد.

# الفاتيكان # المسيحية # الكاثوليكية # البابا فرنسيس

خلق المسيح: رقصة اليهود الأخيرة

مجتمع